ولادة النص العربي لبرنامج الاشتراكية الديموقراطية الألماني الجديد
الدكتور لطيف الوكيل يترجم البرنامج لأول مرة إلى العربية
الحديث عن الاشتراكية الديموقراطية ومسيرتها ليس أمرا سهلا بسيطا بل يتطلب من الجهد الشيء الكثير؛ ذلك أنها مرت بمراحل الولادة والتأسيس مع تنامي الحركة العمالية وبحثها عن الديموقراطية والعدالة مذ أجرت محاولاتها بشأن التحول بمفهوم المساواة للثورة الفرنسية إلى مفهوم العدالة متضمنا فكرة لامساواة عادلة ومرورا بالانشطار بيين اشتراكية ديموقراطية ثورية الاتجاه ممثلة في البلاشفة ومن ثمَّ في الحركة الشيوعية واشتراكية ديموقراطية ممثلة في الأممية الثانية والاتجاه المُختلِط بالليبرالية... وفي تلك الأجواء التي انتهى بها القرن التاسع عشر وابتدأ بها القرن العشرين كانت الأحزاب السياسية والحركات النقابية ومنها تحديدا الحركة النسوية ونضالات المرأة في كل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية قد أفرزت تأثيرات مهمة في التحامها مع الحركة الاشتراكية الديموقراطية بأقسامها المختلفة...
ولقد كان للحركة الاشتراكية الديموقراطية توجهها الذي اكتسى بغطاء نقدي داخلي جرى تحميله بمضامين رفض فكرة صراع الطبقات وانتفاء الديموقراطية التي تستهدف المساواة بين بني البشر في المجتمعات الطبقية، فكان انفتاح الحركة على مالكي وسائل الانتاج من الطبقة الوسطى آنذاك وهو ما حدَّد المحتوى المشروط للمساواة عند منظري الاشتراكية الديموقراطية وحركتها السياسية.. ممثلا في متغير مفهوم المساواة عندهم بقطع النظر عن طبيعة النضالات الإنسانية وجوهرها آنذاك.. فتمثلت عندهم المساواة في المشاركة السياسية مشروطة أو متحددة بالإدماج الاقتصا- اجتماعي والثقافي والديني والقضاء على ما يسمى التهميش بأنواعه إلى جانب المساواة بنقاط الانطلاق في ميادين التنافس عبر فكرة مساواة المواطنين بأدوات أنشطتهم بخاصة منها الفكرية المعرفية. ومن هنا أولت الاشتراكية الديموقراطية أو الديموقراطية الاجتماعية اهتمامها المميز بالتعليم ومجانيته وفرصه... ووجد منظروها وقادتها أن التضامن على وفق رؤاهم هو الكفيل بحماية الفقراء من غول اقتصاد السوق ووحشيته كما في (الإعانات المتأتية من المفردات الضريبية مثلا وأشكال التنظيم لمؤسسات المجتمع المدني)..
لقد حاولت الاشتراكية الديموقراطية أن تقدم مشروعها في الدولة الاجتماعية واقتصاد السوق الاجتماعي بالاستناد إلى التجربة الألمانية وتحديدا بالاشتراك مع معالجات جرت في خمسينات القرن المنصرم من قادة بارزين آنذاك في الحزب الديموقراطي المسيحي [المحافظ] الذي دعا إلى الليبرالية الجديدة وتقليص دور الدولة في الاقتصاد والخدمات الاجتماعية بعد أن أسس مع الأحزاب الأخرى بما فيها الحزب الاشتراكي الديموقراطي للدولة الاجتماعية الحديثة بدعوته لتحقيق ما أسماه الدولة المسيحية الاجتماعية.
ولكن ما يثير الاستغراب هنا يكمن في: أنَّ تلك التجربة جاءت مع مؤسس السياسة الاجتماعية في الدولة الألمانية أي بسمارك؛ حيث أجيز في 1883 قانون التأمين الصحي وفي 1884 أجيز قانون التأمين في إصابات العمل وفي 1889 جاء قانون التأمين في حالة الإعاقة والشيخوخة وتلا ذلك بعقود في العام 1927 قانون التأمين ضد العطالة. وفي حقيقة الأمر فإن كل تلك الخطوات جرت في ظل بروز تأثيرات الماركسية وتقدم نضالات الشغيلة وتنظيماتها ومكاسبها عبر الكفاح المطلبي والسياسي. في حين كان أهم سبب لتوجه اقتصاد السوق الاجتماعي في عهد أدينهاور (المحافظ) هو المجابهة مع تأثيرات الاتحاد السوفيتي وألمانيا الديموقراطية، إلى جانب ظروف ما بعد الحرب العالمية الكونية الثانية التى أدت في بعض مفرداتها إلى انتعاش في الاقتصاد الرأسمالي الأمر الذي فتح المجال لخطط الدولة الاجتماعية في مجانية التعليم وشبكات التأمين والضمان الاجتماعي وغيرها.
وهكذا استمرت حالة التمسك بالدولة الاجتماعية على الرغم من التطورات اللاحقة ووحشية قوانين اقتصاد السوق الذي تعتمده قوى المحافظين من الليبراليين الجدد.. وفي ضوئها كان الانقسام الحاد بين كثير من قواعد الاشتراكية الديموقراطية وقياداتها ما جعل كل من بلير وشرويدر يدعوان إلى ما أسمياه الطريق الثالث وهي ثاني مراجعة تشطر الحركة بعد المراجعة الأولى في مطلع القرن العشرين قبيل ثورة أكتوبر الاشتراكية...
إنَّ اعتماد الاشتراكية الديموقراطية لرؤية برينشتين تجاه عبارة ماركس الثورية التي نصها:"لا تستطيع الطبقة العاملة الاكتفاء بالاستيلاء على آلة الدولة جاهزة واستعمالها لأهدافها الخاصة" تلك الرؤية التي قرأت العبارة بنقيضها عندما قال إنَّ ماركس لم يطالب الشغيلة بإحداث التغيير الجذري في جهاز الدولة.. إنّما يمثل محاولة لتمرير تلك المعالجات الإصلاحية للاشتراكية الديموقراطية التي لا يُرى فيها ما يفي بكبح جماح النظام الرأسمالي وقسوة قوانينه...
لكننا في ظروفنا االقائمة عالميا وعراقيا، نبقى بحاجة للحوار الجدي الذي يقرأ أدبيات الاشتراكية بطريقة موضوعية ويتناول التجاريب الغنية التي عبرت عنها مسيرة حوالي القرنين من الزمن. ويعالج الثغرات التي أدت لتأخر الحلول الناجعة لمشكلات البشرية وأبقت على النظم التي أشعلت الحروب العالمية والإقليمية الكبرى وما زالت تستبيح بقوانينها ميادين جديدة حتى سحقت العالم وهصرته في بوتقة الآلة الجهنمية الجديدة مجدِّدةَ َ تلك التي حلت بالمجتمع البشري في القرون الوسطى..
ولا يمكننا نحن الداعين للمنطق العقلي والقراءة الأكاديمية الدقيقة الرصينة والموضوعية إلا أن ندعو لأوسع حالات تبادل الرؤى والحلول عبر حوار يستند إلى النصوص التأسيسية للحركات وأفكارها وفلسفاتها ونظرياتها.. وأبرز تلك الحركات التي تحتل اليوم ميدان العمل السياسي أوروبيا وعالميا هي الاشتراكية الديموقراطية بما تقدمه لنا اليوم في مشروعاتها وبرامجها..
وفي هذا الإطار عكف الدكتور لطيف الوكيل الأستاذ المحاضر في العلوم السياسية على ترجمة واحد من أبرز مشروعات الاشتراكية الديموقراطية وبرامجها التي تتناول الوضعين الألماني وتجربته والدولي بعمومه في إطار العولمة.. ووضع الدكتور الوكيل بين أيدينا [في إطار تدريسه المادة جامعيا] برنامج الاشتراكية الديموقراطية الألماني باللغة العربية في وقت يمر العراق تحديدا مثلما الوضع عالميا [وإن كان بحدة قاسية في العراق] بمرحلة مهمة بحاجة لمراجعة قراءة وسائل الوصول لديموقراطية تشتمل على احتواء أقسام اجتماعية واسعة تتحالف فيها طبقات اجتماعية مؤجـِّلة تناحرها الطبقي لصالح حل المشكلات الأعقد التي تجابه البلاد من انهيار مؤسسات الدولة نفسها إلى ولادة مؤسسات جديدة تشوبها بل تنخرها حالات الفساد والقصور والأمراض التي تكبح ولادة الديموقراطية وآلياتها...
إنَّ قراءة برنامج الاشتراكية الديموقراطية قراءة نقدية موضوعية مستقيمة تظل ضرورة تحتفظ بأهميتها ومكانتها في تحريك أجواء الولادة الجدية لمؤسسات الديموقراطية في بلادنا التي تسعى لتوظيف هذه الآلية من أجل محو آثار عقود من التخلف والدكتاتورية وسنوات من طغيان الميليشيات والعصابات والمافيات التي تخترق الدولة نفسها...
عليه ستبقى هذه الترجمة تمتلك أهميتها للساسة والاقتصاديين في بلادنا وللمعنيين بالقدر الذي يتم تناولها على وفق ظروف البلاد الآنية وحاجاتها وطبيعة تركيبة البنية التحتية للشعب العراقي وللبناء الفوقي أيضا ولحركاته السياسية والاجتماعية ولمؤسسات المجتمع المدني الوليدة.. وهذه بمجموعها بحاجة جدية لمثل هذه القراءة..
وإنه لمن المفيد أيضا أن ننظر لدعوة الدكتور الوكيل للحركة السياسية العراقية كيما تتصدى للتعبير عن الأقسام المعنية من المجتمع العراقي بخطاب الاشتراكية الديموقراطية وتكوين حزب يعتمد هذا الخطاب بما يلبي طبيعة التنوع الموجود في مجتمعنا من جهة وبما يفيد من التجاريب الإنسانية ويمتاح منها ما يفيد على المستوى السياسي تحديدا... وأذكـِّر هنا بأن عددا من الأحزاب الوطنية العراقية ترتبط بعضوية مع الاشتراكية الدولية وتلتزم بقراراتها وتتفاعل معها ما ينبغي الالتفات إليه في التعاطي مع دعوة الدكتور الوكيل من باب تفعيل الخلفية البرامجية فكريا واقتصاديا وسياسيا بالوصول للنموذج الاشتراكي الديموقراطي في أصول تجربته ومنتهى ما توصلت إليه في المرحلة الأخيرة الراهنة...
أبارك للدكتور لطيف الوكيل جهده، ويهمني بالمناسبة أن أشيد بلغته الصافية ومحاولته اختيار العبارات الأوضح في التعبير عن الفكرة أو الإشكالية بمقابل النص الأصل وعمله الدائب المتصل لأشهر عديدة في الترجمة في محاولة جدية لجعل النص يلتزم التقابل الحي المباشر مع منح النص معطياته الدلالية بمضامينه ومعالجاته على وفق حيوية أسلوب العربية وسعته لاستيعاب اللفتات الدقيقة للنص بلغته الأصل..
وأتمنى أن يحظى النص المترجم بمراجعات سياسية وقراءات أكاديمية وتناول موضوعي يدفع لمناقشة التجربة الاشتراكية الديموقراطية في وجودها أو نموذجها الألماني والحوار بما يفضي لنتائج مفيدة على صعيد تجاريبنا العراقية أم في البلدان العربية.. وآمل له أن يجد الإجازة الرسمية لطبع النص المترجم ونشره في مطبوع عربي النسخة في القريب إلى جانب النشر الألكتروني وداخل قاعة الدرس...
وللاطلاع على النص يُرجى العودة للرابط الآتي:
الأستاذ الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي
باحث أكاديمي في العلوم السياسية
رئيس جامعة ابن رشد في هولندا
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر